سورة التحريم - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التحريم)


        


{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)} [التّحريم: 66/ 1- 5].
يا أيها الرسول النّبي، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح اللّه لك، قاصدا إرضاء أزواجك، واللّه غفور لما فرط منك، من تحريم ما أحلّ اللّه لك، وما تقدّم من الزّلة، رحيم بك، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه. وهذا عتاب بطريق التلطّف، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة له مثل الذنب، وإن لم يكن ذنبا في الواقع.
وقد صحح ابن العربي أن التحريم كان في العسل، وأنه شربه عند زينب.
وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، وجرى ما جرى، فحلف ألا يشربه، وأسرّ ذلك، ونزلت الآية في الجميع.
وقال ابن عطية: إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية، ومتى حرّم الرجل مالا أو جارية دون أن يعتق أو يشترط عتقا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حرّم على نفسه الاستمتاع بمارية القبطية الجارية التي أهداها المقوقس إليه، حين قضى معها وقت القيلولة، في حجرة حفصة أو في حجرة عائشة، فغضبت بعد أن جاءت، فقال لها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم: أيرضيك أن أحرّمها؟ قالت: نعم، واستكتم صاحبة الغرفة، لئلا تعلم عائشة أو حفصة بالخبر، خوفا من غضبها.
والكفارة عن اليمين المحلوفة: أن اللّه تعالى شرع لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في اليمين المنعقدة في سورة المائدة [الآية: 89]، واللّه متولّي أموركم وناصركم على الأعداء، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير الأمور.
واذكر حين أسرّ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم لزوجته حفصة أنه حرّم العسل على نفسه، أو حرّم مارية، فلما أخبرت به غيرها، وأطلع اللّه نبيه على ما حدث منها من إخبار غيرها، عرّف زوجته (حفصة أو عائشة) بعض ما أخبرت به، وأعرض عن تعريف البعض الآخر.
فحينما أخبرها بإفشائها هذا الحديث، قالت: من أخبرك به؟ قال: أخبرني به اللّه الذي لا تخفى عليه خافية، فهو واسع العلم بالأسرار، وتامّ الخبرة بكل شيء في السماء والأرض.
ثم أمر اللّه تعالى حفصة وعائشة بالتوبة مع العتاب، فإنكما إن تتوبا إلى اللّه، فتكتما السرّ، وتحبّا ما أحبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتكرها ما كرهه، قبلت توبتكما من الذنب، وكان خيرا لكما، فقد مالت قلوبكما عن الصواب والسداد والحق. وإن تتعاونا على ما يؤذي النبي، بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سرّه، فإن اللّه يتولّى نصره، وكذلك في الولاية (أو النصرة) جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر وعلي، والملائكة بعد نصر اللّه له، ومناصرة جبريل والمؤمنين أعوان له وحراس وحفظة.
ثم حذّرهما من العواقب، فلله القدرة التامّة، فإن ربّه عسى إن طلّقكن أيتها النسوة قادر أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن، قائمات بفروض الإسلام، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، مطيعات لله سبحانه ولرسوله، تائبات من الذنوب، مواظبات على العبادة متذلّلات لله، صائمات، بعضهن ثيبات (مدخول بهن) وبعضهن بكارى أو عذارى (غير مدخول بهن). والآية تهديد ووعيد على محاولات إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وفيها أيضا وعد من اللّه لنبيّه أن يزوجه بما يريد، في الدنيا والآخرة.
أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الغيرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية.
وليس بعد هذه الموالاة أو المناصرة شيء مثيل لها، مبالغة في تعظيم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وتخلّصا من المكيدة ومكر النساء وغيرهن، وإحباطا لكل كيد من المشركين والمنافقين.
اتّقاء النار والتوبة والجهاد:
أمر اللّه المؤمنين بطائفة من المواعظ، هي وقاية النفس والأهل من النار، بترك المعاصي وفعل الطاعات، والمبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الخطايا والذنوب، والإقدام على الجهاد- جهاد الكفار والمنافقين، لإقرار عقيدة التوحيد، وتنظيف المجتمع من كل مظاهر الضعف والطعن والتفريق في الداخل، لتبقى الأمة واحدة نقية، كما يتضح في هذه الآيات:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التّحريم: 66/ 6- 9].
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، روّضوا أنفسكم وأهليكم، واتّخذوا لها وقاية من النار، أما بالنسبة للنفس فبحملها على طاعة اللّه تعالى، وأما بالنسبة للأهل فبالوصية لهم، والحمل على الطاعة أيضا، حتى لا تصيروا معهم إلى النار الرهيبة، التي تتوقد بالناس والحجارة، كما يتوقد غيرها بالحطب. وهذا دليل على أن المعلّم يجب أن يكون عالما بما يأمر به وينهى عنه.
وعلى النار خزنة من الملائكة غلاظ الخلق والطباع، أشداء القلوب والبطش والفظاظة، ذوو قوة هائلة، والشدة: القوة، وعدد زبانية جهنم تسعة عشر، كما جاء في آية أخرى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} [المدّثّر: 74/ 30]. يتميّزون بالطاعة التامّة لله، فلا يخالفونه في أوامره، ويؤدّون ما يؤمرون.
وفائدة الجملتين: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} أن الأولى لبيان الطواعية في الماضي، والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال.
ثم أخبر اللّه تعالى عما يقال للكافرين، ليكون ذلك وعظا للمؤمنين، يقال لهم عند دخول النار يوم القيامة، تيئيسا لهم: لا تعتذروا عن شيء، فالمعذرة لا تنفعكم، وإنما تجزون بأعمالكم، فلا تلوموا إلا أنفسكم.
ثم أمر اللّه المؤمنين بالتوبة النّصوح الخالصة له وهي مبالغة من النّصح، فيا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، ارجعوا إلى اللّه وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة، تمحو ما قبلها من السيئات: وهي الندم بالقلب على الذنب، والاستغفار باللسان، والإقلاع البدني عن المعصية، والعزم على ترك العودة إلى العصيان، عسى وهي هنا ترجية، أي لعل اللّه أن يمحو سيئات أعمالكم التي قارفتموها، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، حين لا يوقع نبيّه والمؤمنين أتباعه بالمكروه بترك أو نقص شيء أو سوء منزلة، بل يعزّهم ويكرمهم، وحين ترى نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم، ويسبقهم أمامهم، ويجاورهم عن أيمانهم، حال مشيهم على الصراط، كما جاء في آية أخرى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 57/ 28].
ويبقى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم مخصوصا مفضّلا بأنه لا يخزي.
ويدعو المؤمنون حين يطفئ اللّه نور المنافقين يوم القيامة، قائلين: { رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} أي أبقه لنا، وأدمه علينا، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا، ولا تفضحنا بالعقاب، واغفر لنا ذنوبنا، وحقّق رجاءنا، إنك القادر التامّ القدرة على كل شيء.
ثم أكّد اللّه تعالى أمر الجهاد وفرضه المتقدّم، فيا أيها النّبي القائد، دم على جهاد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، واضربهم على جرائمهم، وعند قوة الظن بهم، ولكن دون تعيين اللّه لرسوله منافقا يقع القطع بنفاقه. وليكن جهادك للفريقين بعنف وقسوة قلب، وشدة وانتهار، وقلة رفق بهم، وشدّد عليهم في الدعوة إلى الإسلام في الدنيا، ومثواهم جهنم في الآخرة، وساء المرجع مرجعهم.
وعذابهم في الدنيا حين التأكّد من نفاق بعضهم: الطّرد من المسجد، فقد أمر النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعضهم قائلا: اخرج يا فلان.
وسيكون مقر الفريقين من الكفار والمنافقين نار جهنم، فلا أمل لهم بعد هذا البيان بالنجاة أو التخلّص من العذاب.
إن هذه التوجيهات والمواعظ في الدنيا لها أهميتها الكبرى لصلاح النفس والبيئة، ونقاء القلب وطهره وتجرّده من جميع شوائب المعصية، وإقرار مبدأ توحيد اللّه وإزالة كل عوائق الكفر في الوقوف أمام نشر دعوة الإسلام.
مثلان من سيرة النّساء:
ضرب اللّه تعالى مثلين للكفار والمؤمنين، مؤدّاهما: أن من كفر لا يغني عنه من اللّه شيء، ولا ينفعه ملجأ أو معتصم، ولو كان متعلّقا أو متأمّلا بأقوى الأسباب.
وأن من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان اللّه تعالى، ولو كان في أسوأ منشأ وأخس حال. فامرأة نوح وامرأة لوط كانتا في بيت النّبوة، ولكنهما خانتا زوجيهما في الكفر، فلم تفدهما رابطة الزواج شيئا من عذاب اللّه، ولكن ليست الخيانة أخلاقية، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: وما بغت زوجة نبي قط ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا. وآسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران كانتا في وسط صعب مناف للإيمان، فصبرتا على المكروه، فكانتا في منزلة عالية عند اللّه تعالى، وذلك المثلان في الآيات الآتية:


{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)} [التّحريم: 66/ 10- 12].
جعل اللّه مثلا لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم، أنه لا يغني أحد عن أحد، فكل إنسان مسئول عن نفسه، ومجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها في مجال النجاة عند اللّه، ما دام الإنسان كافرا، أي مات على الكفر ولم يتب.
وهذا المثل: أن امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السّلام، كانتا في عصمة نبيّين رسولين، وبينهما معاشرة واختلاط بسبب رابطة الزوجية، لكنهما خانتا الرسولين في الكفر وترك الإيمان برسالتهما، وعدم الإيمان بهما، فكانت امرأة نوح (واعلة) تقول عن زوجها لقومه: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط (والهة) تدلّ قومه على أضيافه، بإيقاد النار ليلا، وبالتدخين نهارا، فلم ينفعهما الزواج شيئا من النفع عند اللّه: نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما، ولا تمكنا من دفع العذاب الإلهي عنهما، أو رفع محذور عنهما، مع علوّ مكانة زوجيهما عند اللّه.
وهذا تعريض بزوجي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: حفصة وعائشة، لما فرط منهما، وتحذير لهما ولغيرهما بأنه لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام إن عصين اللّه تعالى.
ثم ضرب اللّه مثلا آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين مؤمنتين، على ضدّ حال المرأتين الكافرتين في المثل السابق.
وهذا المثل الذي ضربه أو جعله اللّه للمؤمنين: هو حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وعمة موسى عليه السّلام، آمنت بموسى، حين سمعت قصة إلقائه عصاه، فعذّبها فرعون في الشمس بسبب إيمانها، وبعث إليها من يقتلها بالحجر الأعظم، فلم تتراجع عن إيمانها، ونجاها اللّه حين أحسّت الشرّ من محاولي قتلها، حين دعت بهذا الدعاء: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين منك، وخلّصني من بطش فرعون وشروره، وأنقذني من القوم الظالمين، وهم كفار القبط. فقبض اللّه تعالى روحها. وهذا دليل على صدق إيمانها بالله واليوم الآخر.
والمرأة الثانية في هذا المثل: هي حال مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما السّلام، التي صانت فرجها عن الفاحشة، فكانت مثال العفة والطّهر، فأمر اللّه جبريل أن ينفخ الروح في فرجها، فحملت بعيسى، وصدّقت بشرائع اللّه التي شرعها لعباده وبصحفه المنزلة على إدريس وغيره، وبكتبه المنزلة على الأنبياء، وهي التوراة والإنجيل، وكانت من القوم المطيعين لربّهم، حيث كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربّهم، أي كانت من القوم القانتين في عبادتها وحال دينها. وقوله تعالى: {مِنْ رُوحِنا} إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك، كما تقول: بيت اللّه، وناقة اللّه، كذلك الروح والجنس كله هو روح اللّه.
أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
وجاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام».